17 سبتمبر 2025

المقاهي الأدبية في بوينس آيرس: ذاكرة حية للثقافة الأرجنتينية

Maroc24 | دولي |  
المقاهي الأدبية في بوينس آيرس: ذاكرة حية للثقافة الأرجنتينية

في وسط مدينة بوينس آيرس، يكفي للمرء أن يدخل من باب مقهى ليشعر بأن التاريخ والذاكرة في متناول يديه.

المقاهي الأدبية، مثل “تورتوني” أو “لا بييلا”، ليست مجرد أماكن لاحتساء قهوة “كورتادو”، بل منصات تنبض بالحياة ويتقاطع فيها الأدب والسياسة والنقاشات الرفيعة، الأمر الذي ساهم في نهاية المطاف في تشكيل المخيال الجماعي للأرجنتينيين والأدب العالمي.

تأسس مقهى تورتوني عام 1858 على يد مهاجر فرنسي، ويقع في منتصف الطريق بين القصر الرئاسي (كاسا روسادا) ومبنى الكونغرس. بمجرد أن تدخل من أبوابه الخشبية السميكة، تجد نفسك محاطا بنوافذ زجاجية ملونة، وتصاميم خشبية داكنة، وصور شعراء.

المكان مزدحم دائما، وطوابير الولوج إلى المكان تكاد لا تنقطع. يأتي الزوار إلى هنا لاحتساء القهوة، ولكن أيضا للاستمتاع بجانب من تاريخ البلاد الثقافي.

هنا جلس ألفونسينا ستورني، وخورخي لويس بورخيس، وريكاردو غيرالديس لقراءة نصوصهم أمام جمهور متعطش وعاشق.

على طاولة في آخر الغرفة تحت إضاءة خافتة، جلست سائحة برازيلية، بينما كان النادل يستعد لوضع طلبيتها على الطاولة في جو احتفالي، وهمست لجار لا تعرفه: “انتظرت طويلا في الخارج، ولكن عندما جلست تحت النوافذ الزجاجية الملونة، شعرت كأن بورخيس أو كورتازار سيدخلان في أي لحظة. لا يزال المكان يتنفس وجودهما”.

كتب خوليو كورتازار في روايته “رايويلا” الصادرة سنة 1963، أن “المقهى هو مكان لا تضطر فيه أن تكون وحيدا، ولكن يمكنك أن تكون فيه كذلك إن شئت”. يعتقد الكثيرون في بوينس آيرس أنه كان يفكر في تورتوني عندما خط هذه السطور.

احتضن تورتوني “بينا ليتيراريا”، وهي حلقة ثقافية تأسست عام 1926، حيث كان الفنانون والكتاب يلتقون أسبوعيا. وحتى اليوم، لا يزال قبو تورتوني يستضيف عروض التانغو والأمسيات الشعرية.

في قلب حي ريكوليتا، شمالا، ينبض مقهى “لا بييلا” بإيقاع مختلف يخص خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت سباقات السيارات تثير حماسة بوينس آيرس. لا يمل النادل من التذكير بأصول اسم هذا المقهى الأسطوري، الذي يشير إلى قطعة من المحرك. لكن الكتاب هم من ساهم في تخليده في المقام الأول.

كان لخورخي لويس بورخيس وأدولفو بيوي كاساريس طاولتهما الخاصة هناك، تحت أشجار الدلب. حتى أنه تم إنشاء تمثالين لهما بالحجم الطبيعي، يجلسان جنبا إلى جنب، كما لو كان الغرض هو التذكير بأن الأدب يمكن أن ينبعث بين خطوات النادلين جيئة وذهابا.

بين ثنايا “الألف” عبر بورخيس عما يخالجه من “أن الحياة البشرية تتشكل من أحاديث المقاهي، والقراءة، والأحلام”. عبارة تبدو وكأنها صممت خصيصا لـ”لا بييلا”.

“كل يوم أحد، أتناول قهوة كورتادو على الشرفة، تحت أشجار الدلب. أمام تمثالي بورخيس وبيوي، أعيد قراءة بضع صفحات من “تخيلات” بورخيس. إنها طريقتي في الحديث مع الماضي”، يقول خورخي، وهو رجل سبعيني، يبدو، بحكم معرفته بالنادل، أنه من رواد “لا بييلا” الأوفياء.

رغم كونهما أقل شهرة ولكن على نفس القدر من الأهمية، شكل كل من “36 بيلاريس” و”بار إيبيريا”، ملاذا للمثقفين الإسبان. كان فيديريكو غارسيا لوركا، الذي وصل إلى بوينس آيرس سنة 1933 بعد شهرة “عرس الدم”، يرتاد “36 بيلاريس” لتناول الإفطار وعقد اللقاءات مع رواد المسرح.

على بعد خطوات قليلة، أصبح “بار إيبيريا” ملاذا للجمهوريين خلال الحرب الأهلية الإسبانية. أما على الجانب المقابل من الشارع، فكانت حانة فندق إسبانيول ملتقى لمؤيدي فرانكو. مقهيان، معسكران متنافران، وبين الإثنين بوينس آيرس، كأرض للمنفى وللنقاشات المحمومة.

كان “لا كونفيتريا ريتشموند”، في شارع فلوريدا التجاري، معقلا لكتاب مجلة “مارتن فييرو” في عشرينيات القرن الماضي. كان بورخيس، وأوليفيريو جيروندو، وليوبولدو ماريشال، وريكاردو غيرالديس يجتمعون هناك كل مساء.

تقول الأسطورة إنهم كانوا يغنون مقطوعة لفيردي، مع تعديل ساخر للكلمات، قبل الانخراط في نقاشات أدبية لا تنتهي.

كل هذه الأماكن ليست مجرد ديكورات، بل تجسد أسلوبا للعيش وللإحساس ببوينس آيرس.

لا يزال التانغو، الذي نشأ في أعماق المدينة، يتردد صداه في بعض هذه المقاهي، حيث تساهم العروض الليلية في تأبيد الصلة بين الشعر والموسيقى.

تتشارك المقاهي والتانغو في الجمالية نفسها. فنجان قهوة، وعزف على آلة الباندونيون، ويمكنك حينها أن تفهم لماذا ألف الكتاب الكثير على هذه الطاولات.

اليوم، تصنف بلدية المدينة هذه المقاهي ضمن “المقاهي المرموقة”. فهي تظهر على صفحات الدلائل السياحية، لكن تبقى مرتادة من قبل السكان المحليين، والطلاب الذين يراجعون مقرراتهم الدراسية، والمتقاعدين الذين يطالعون الصحف، والكتاب الباحثين عن الإلهام.

هذه المقاهي الأدبية، سواء كانت تورتوني، أو لا بييلا، أو ريتشموند، أو غيرها، هي ذاكرة حية لمدينة طالما استخدمت الحوار كسلاح ثقافي وسياسي.

في عصر يهيمن عليه العالم الافتراضي، تذكر هذه المقاهي بأن بوينس آيرس، بفضل مقاهيها، لا تزال “مدينة الجدل” كما وصفها بورخيس، والتي لا يزال التاريخ الجماعي للثقافة الأرجنتينية يدون فيها.
و م ع


أضف تعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم‬.