من قلب المدينة العتيقة لطنجة، تهب نسمات التجديد الثقافي من مسرح رياض السلطان، المعلمة التي تجمع بين أصالة التراث ولمسات الحداثة، لتبعث الروح في الأزقة والحواري المحيطة بها، وتصبح، بحق، فضاء للإبداع والتعبير ومركزا للتلاقح الثقافي.
وتبوأ “رياض السلطان”، كأول مسرح للقرب بالمغرب والذي تم افتتاحه عام 2021 في إطار جهود تأهيل وتثمين المدينة العتيقة لطنجة، وفي غضون سنوات قليلة، مكانة مرموقة كمركز للإبداع الفني وللإشعاع التراثي.
ويمثل هذا الصرح الثقافي، الذي كان جزءا من “دار المخزن” التي شيدت في القرن السابع عشر، والذي لا تخطئه العين في الزقاق المؤدي إلى ساحة المشور وباب البحر، وبجوار متحف القصبة للثقافات المتوسطية ومتحف القصبة فضاء الفن المعاصر، وغير بعيد عن فضاء عرض ذاكرة ابن بطوطة ببرج النعام، تجربة مسرحية مبتكرة في المغرب، تروم تقريب أبي الفنون من الشباب، خاصة، ومن ساكنة المدينة العتيقة، عموما.
ويضم هذا المسرح، المجهز بأحدث التجهيزات، قاعة عروض نموذجية و خزانة مسرحية واستوديو تسجيل ومحترفات إبداعية ومقهى ثقافيا مفتوحا على حديقة أندلسية غناء مشكلا فضاء دافئا يفوح منه عبق التراث والإبداع.
وأضحى رياض السلطان، الذي كان ثمرة شراكة بين “جمعية باب البحر سينما ومسرح” ووزارة الشباب والثقافة والتواصل وولاية الجهة والمجلس الجهوي وجماعة طنجة، منارة لساكنة طنجة، لاسيما الشباب، مجسدا بذلك رؤية جديدة لأبي الفنون، تتمحور حول تسهيل الولوج للمسرح، وتثمين التراث، ومشاركة الساكنة في تنشيط الحياة الثقافية.
وربح مسرح رياض السلطان، وفي ظرف ثلاث سنوات، فقط، التحدي، من خلال برمجة غنية وفريدة ، حيث تم عرض 60 عملا مسرحيا وتنظيم 37 لقاء ثقافيا وتقديم ثلاثة عروض سينمائية استقطبت أكثر من 14 ألف متفرج ما بين 2022 و 2024 ، الأمر الذي يثبت شغف واهتمام جمهور مدينة طنجة، ولاسيما الشباب، بالعروض الثقافية الراقية.
وذكر مؤسس ومدير مسرح رياض السلطان، الزبير بن بوشتى، بأن هذا المشروع قد رأى النور بفضل دعم المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، مشيرا في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء أنه استفاد بشكل كبير من الزخم النوعي لبرنامج تأهيل وتثمين المدينة العتيقة لطنجة، المشروع الكبير الذي يتماشى مع رؤية صاحب الجلالة الملك محمد السادس الرامية إلى الحفاظ على التراث الوطني بكل تجلياته، لفائدة الأجيال الناشئة والمستقبلية.
وأكد الكاتب المسرحي الطنجاوي أن مسرح رياض السلطان ليس مجرد قاعة للعروض، بل هو فضاء للقاء والتكوين والتعبير الحر، فضاء أصبح فيه الفن لغة مشتركة لبناء مستقبل إبداعي، وقبل كل شيء، رمزا حيا للدينامية الثقافية في منطقة الشمال، الأمر الذي يعكس العناية الكبرى التي يوليها جلالة الملك للثقافة ولعاصمة البوغاز.
ويقترح هذا الفضاء الثقافي والفني شهريا، منذ افتتاحه، يقول الزبير بن بوشتى، على الجمهور باقة متنوعة من الفعاليات الثقافية، منها لقاءات أدبية وعروض مسرحية وورشات فنية، تجمع بين الجمالية والإبداع، وذلك سعيا إلى إرضاء جميع الأذواق.
ويحتفي رياض السلطان سواء عبر المسرح والعروض الأمازيغية والإفريقية مرورا بحفلات تكريم شخصيات أدبية ومسرحية بارزة، بالتنوع الثقافي المغربي وجذوره الإقليمية والدولية، يضيف الكاتب المسرحي، مؤكدا أن هذا الفضاء مفتوح لجميع شرائح المجتمع، وكذلك للفنانين والمبدعين المحليين والوطنيين والدوليين.
وإلى جانب برمجته الغنية، يلتزم هذا الفضاء بتكوين الشباب عبر ورشات منتظمة، من قبيل “المسرح والسيرك” و”الرقص المعاصر” و”مسرح الكبار”، والتي يستفيد منها عشرات الأطفال والشباب بالمدينة والمتعطشين لمختلف التعبيرات الفنية والإبداعية.
تقول صفاء ذات ال 11 ربيعا، وهي إحدى المستفيدات من ورشة “المسرح والسيرك”، التي ينظمها رياض السلطان، بأنها تعلمت التمثيل عبر مشاركتها في هذه الورشة، وكذا الحديث أمام الجمهور وبالتالي تعزيز ثقتها بنفسها.
وأضافت أن “هذه الورشة أتاحت لنا الاطلاع على تقنيات الأداء المسرحي، والتعبير الجسدي، وتحفيز إبداعنا”، مؤكدة أن التجربة بهذه الورشة محفورة في ذاكرة جميع المشاركين فيها، وتميزت بالاكتشاف وبمشاركة متعة الإبداع الجماعي.
ويلعب مسرح رياض السلطان، الذي يندرج في إطار الرؤية الملكية المتبصرة في تعزيز الثقافة كرافعة أساسية للتنمية البشرية والمحلية المستدامة، دورا محوريا في إعادة تنشيط فضاءات الساحات العامة من خلال مبادرات جريئة مثل مشروع “طنجة فرجة” الذي اكتسح ساحات المدينة العتيقة بعروض فنية في الهواء الطلق، وبرنامج “أول إخراج مسرحي” المخصص للمواهب الشابة في إطار المهرجان الوطني للمسرح.
كما رسخ مسرح رياض السلطان مكانته كفضاء للحوار بين الثقافات من خلال فعاليات مثل “ربيع الجكرندا للمسرح المتوسطي” و”صيف إفريقي”، الأمر الذي ساهم في إبراز ثراء التعبير المسرحي المتوسطي والإفريقي، مع تعزيز التبادل بين الفنانين والباحثين والجمهور.
وهكذا يظهر مسرح رياض السلطان، وبشكل مدهش، ومن خلال التناغم المذهل بين التراث والإبداع، أن الفن عندما يرتكن إلى التاريخ وينفتح على العالم، يصبح قوة حية تخدم التنمية البشرية والاجتماعية والثقافية سواء في طنجة أو في الجهة ككل.
و م ع
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.