مع حلول فصل الصيف، يشهد إقليم تارودانت إقبالا متزايدا للساكنة و الزوار على فن “التبوريدة” خلال المهرجانات والمواسم المتعددة، حيث يعد هذا الفن الفرجوي سمة مميزة لهذه الاحتفالات.
ويعتبر فن “التبوريدة”، أو الفروسية التقليدية، من أبرز التعابير التراثية التي يزخر بها الإقليم، إذ يجمع بين البعد الرمزي والجمالي والتاريخي، ويعكس تشبث المغاربة بهويتهم الثقافية المتنوعة وارتباطهم العميق بتقاليدهم الأصيلة.
ويمارس هذا الفن، المعروف أيضا بـ”الفانتازيا”، خلال المواسم والمناسبات الوطنية والدينية، حيث تتبارى فرق الفروسية، المعروفة بـ”السربات”، في عروض جماعية تجسد الانسجام بين الفارس وفرسه، وتبرز مهارات عالية في التحكم، التنسيق، ودقة التنفيذ.
وفي هذا الإطار يندرج الملتقى السنوي للتبوريدة بتارودانت الذي تنظمه صيف كل سنة، جمعية “مهرجان التبوريدة وإحياء التراث الروداني”، بشراكة مع جماعة تارودانت، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، عمالة إقليم تارودانت، مجلس إقليم تارودانت، ومجلس جهة سوس ماسة، وبدعم عدد من الفعاليات الاقتصادية.
هذا الملتقى يهدف إلى خلق فضاءات توفر فرصا مثلى لتحقيق التواصل والاندماج الاجتماعيين من خلال خلق أجواء احتفالية راقية تعكس ما تختزله الأبعاد الرمزية والثقافية المتجذرة للفرس في الهوية الثقافية الوطنية من جهة، ولفن التبوريدة كتراث تاريخي وأصيلي، من جهة أخرى، في إطار خلاق لخدمة التنمية الاجتماعية والإنسانية.
وتتميز التبوريدة بطقوس دقيقة تبدأ باصطفاف السربة تحت قيادة “المقدم”، الذي يتولى تنسيق الحركات والإشراف على سلامة الأداء، وتنطلق السربة على صهوات خيول مزينة، في حركة جماعية متناسقة، تنتهي بإطلاق طلقة نارية موحدة من البنادق التقليدية، في لحظة تعد ذروة العرض، وتعكس مدى التناسق والانضباط الجماعي.
وقبيل كل انطلاقة، يستعرض “المقدم” أو “العلام” السربة التي تتكون من 14 فارسا وفرسا، ويشجعهم من خلال ترديد أسمائهم، ثم تدخل المجموعة إلى ساحة العرض وتبدأ بتحية الجمهور، المعروفة بـ”الهدة” أو “التشويرة”.
إثر ذلك، يعود الفرسان إلى نقطة الانطلاق، حيث يصطفون في خط مستقيم في انتظار إشارة “المقدم”، لتنطلق الخيول في سباق بديع يبرهن خلاله الفرسان على ما يتمتعون به من مهارات، سواء في السيطرة على خيولهم لإبقائها في الصف، أو في الحركات التي يؤدونها ببنادقهم، إذ يتعين عليهم إطلاق النار في اللحظة ذاتها فور إعطاء الإشارة، حيث يعلق نجاح عرض “التبوريدة” على توحيد توقيت الطلقة ودقتها.
وفي هذا الصدد، أكد رئيس جمعية “نواصي الخير للفروسية التقليدية” بتارودانت، عبد العزيز أيت أونجار، أن فن التبوريدة التراثي المغربي يتميز بتشكيل ما يعرف بـ”السربة”، وهي مجموعة من الفرسان يرتدون الزي التقليدي المغربي المكون من الجلابة، والسلهام، والعمامة، والسروال الفضفاض، ويتوشحون بالخنجر “الكمية”، ويحملون السلاح التقليدي المعروف بـ”المكحلة”، التي ترصع بخطوط ونقوش متموجة وتعمل بالبارود والحبة.
وأضاف في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن عملية تجهيز الخيول تعد جزءا أساسيا من هذا الفن، حيث تزين بالأقمشة والزخارف التقليدية التي تعكس التراث المحلي، ويتم إعدادها بعناية فائقة لضمان التناغم والجمالية خلال العرض، مما يضفي على التبوريدة رونقا خاصا يعبر عن الفروسية والتقاليد العريقة.
وأشار إلى أن المجموعة تحرص على أداء وقفة للدعاء قبل الانطلاق في العرض، وهي لحظة تعبر عن التضرع إلى الله عز وجل طلبا للبركة والسلامة، وتجسد الأبعاد الروحية العميقة المرتبطة بهذا الفن التراثي.
وأوضح أن المنطقة تزخر بكفاءات شابة متخصصة في هذا المجال، ورثت تقنيات الفروسية التقليدية عن الأجداد، وتسعى إلى تطويرها مع الحفاظ على طابعها الأصيل، مبرزا أن المهرجانات والمواسم تساهم بدور فعال في الحفاظ على استمرارية هذا الفن ونقله للأجيال القادمة.
وتعد تارودانت من الأقاليم ذات الحضور التاريخي في فنون الفروسية، حيث تنظم بانتظام مواسم تقليدية ومهرجانات محلية مخصصة للتبوريدة، ما يجعل من هذه العروض مناسبة لتعزيز الروابط الاجتماعية وتثمين الرأسمال الثقافي للمنطقة.
جدير بالذكر أن فن التبوريدة قد تم إدراجه ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية من قبل منظمة اليونسكو في دجنبر 2021، وهو ما يعد محطة بارزة في مسار الاعتراف الدولي بالموروث الثقافي المغربي.
ويعكس هذا التصنيف المكانة الرمزية والفنية التي يحتلها هذا الفن التقليدي، باعتباره تجسيدا حيا لقيم الفروسية والهوية الجماعية، ودليلا على الغنى والتنوع الذي يميز التراث غير المادي للمملكة.
و م ع
من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم.